مقالات


حق الابتكار في الفقه الإسلامي

بقلم الدكتور : أحمد حسن
أستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق

 

أولا ً - مفهوم الحق و الابتكار :

1- الحق لغة : يطلق الحق على المال ، والملك ، والموجود الثابت .

2- الحق اصطلاحا ً اختصاص حاجز .
والاختصاص علاقة أو رابطة بين شخص وشيء ، أو بين شخص وشخص ، تمنح صاحبها استئثارا ً على موضوعها .

3- أركان الحق : للحق ركنان ، هما صاحب الحق ، ومحل الحق .
صاحب الحق : قد يكون هو الله تعالى ، أو العبد ، أو يكون الحق مشتركا ً بين الله وبين العبد .
مـحــل الحق : ما يتعلق به الحق ، و يَردُ عليه ، كالدار التي يملكها الإنسان ، والديون التي له في ذمة الغير .

4- أنواع الحق : يمكن تقسيم الحق باعتبارات متعددة :

1- تقسيم الحق باعتبار صاحب الحق : ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
أ- حق الله : ما يتعلق به النفع العام للعالم ، فلا يختص به أحد ، ولا يمكن إسقاطه والتنازل عنه ، كالعبادات ، وحد الزنا .
ب- حق العبد : ما يتعلق به مصلحة خاصة ، كحقوق الأشخاص المالية .
وحق العبد يباح بالإباحة
ج- الحق المشترك : هو الذي يجتمع فيه حق الله وحق العبد .
لكن  إما  أن يغلب فيه حق الله أو حق العبد ، كحد القذف ، فالغالب فيه حق الله عند الحنفية .

2- تقسيم الحق باعتبار محل الحق : ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
أ- الحق المالي والحق غير المالي :
- فالحق المالي : هو الذي يتعلق بالأموال والمنافع .
- والحق غير المالي : هو الحق المجرد كحق الشفعة ، وحق الحضانة ، وحق الأبوة والبنوة .
- ولا تقبل هذه الحقوق التنازل عنها بمال .
ب- الحق الشخصي و الحق العيني :
- الحق الشخصي : ما يقرّه الشرع لشخص على آخر ، كالدين لشخص في ذمّة الآخر .
- ولا يثبت على شيء معين بالذات بل يثبت في الذمة .
- الحق العيني : ما يقره الشرع لشخص على شيء معين بالذات ، كحق الملكية الثابت لمالك العقار ، فيخوله سلطات الاستعمال والاستغلال والتصرف .
ج- الحق المجرد والحق غير المجرد :
- الحق المجرد : ما كان غير متقرر في محّله ، فلا يترك أثرا ً بالتنازل عنه ، كحق الشفعة .
- الحق غير المجرد : ما له تعلق بمحل الحق ، فلتعلقه بمحل الحق أثر يزول بالتنازل عنه كحق القصاص.

5- تعـريـف الابـتـكــــار :

1- الابتكار لغة : البُــكرة الغدوة ، وكلّ من بادر إلى شيء فقد أبكر إليه في أي وقت كان .
فمن ألف كتابا ً لم يــُسبق إليه ، أو اخترع شيئا ً سمي مبتكرا ً .

2- الابتكار اصطلاحا ً : عرّفـه الدكتور فتحي الدريني بقوله : الصّور الفكرية التي تـفتقت عنها الملكة الراسخة في نفس العالم أو الأديب ونحوه ، ممّا يكون قد أبدعه هو ولم يسبقه إليه أحد .

6- دراسة تاريخية لحق المؤلف :
اخترع الإنسان الكتابة ، فكانت وسيلة لنقل المعلومات إلى الآخرين ، وكانت الكتابة في أول الأمر على الحجارة والعظام وغيرهما ، إلى أن اخترع الإنسان الورق .
وهكذا تيسر للعلماء تدوين أفكارهم ، و تـناقلها الناس في الماضي عن طريق النسّاخ ، وقد عرف بعضهم بامتهان مهنة نسخ الكتب و بيعها ، وكان الذي يتقاضى الأجر هو الناسخ دون المؤلف ، إذ لم يكن للمؤلف في الماضي إلا الحق العلمي ، ولم يكن هناك حق مادي للمبتكر أصلا ً .
ثم ظهرت الطابعات التي تقذف آلاف النسخ في مّدة وجيزة ، وأعقب ذلك ظهور دور النشر والمكتبات ، فبرزت للوجود فكرة الحق المادي للمؤلف ، وهو ما اعترفت به كل قوانين العالم ، وقد كان للعلماء في هذا العصر نظر في الحق المادي للمؤلف ، وهو ما سنعرفه فيما بعد إنشاء الله تعالى .

7- طبيعة حق الابتكار :

1- صاحب حق الابتكار : يبدو أن هناك ثلاثة مجالات يمكن النظر فيها لتحديد صاحب حق الابتكار وهي : أ- حق النسبة : أي نسبة المؤلَّف للمؤلِّف ، فالنسبة من حقوق العباد ، وهي تشبه نسبة الولد للوالد.
وهذا الحق و إن كان من حقوق العباد ، إلاّ أنه لا يجوز التنازل عنه ، وهذا مستثنى من قاعدة حقوق العباد ، إذ الأصل فيها جواز التنازل عنها إلا أن بعضا ً منها لا يقبل التنازل كالنسب ، وحق الابتكار مثله.
ب- حق الله في الابتكار : عرفنا أن حق الله ما يتعلق به النفع العام للعالم ، فلا يختص به أحد ، فهو يعود إلى المجتمع كله بالنفع  .
والابتكار بهذا النظر يمكن اعتبار حق الله فيه ، فلا بد من نشره ، وعدم كتمانه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كتم علما ً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) .
إلا أن هذا لا يستلزم بذله مجانا ً ، فالقوت مثلا ً يحرم احتكاره ، لكنه لا يبذل مجانا ً على جهة الإلزام .
ج- الحق المادي في الابتكار : هذا الحق إن ثبت فهو من حقوق العباد ، فيقبل التنازل عنه ومعاوضته بمال ، وسنذكر فيما بعد آراء العلماء فيه - إن شاء الله تعالى .

2- حق الابتكار حق شخصي أو حق عيني ؟ :
عرفنا أن الحق الشخصي يثبت في الذمة ولا يثبت على شيء معين بالذات أما الحق العيني فيثبت على شيء معين بالذات .
ويبدو أن حق الابتكار حق عيني ، لأن الابتكار هو الصور الفكرية ، إلا أن هذه الأفكار لا يمكن الاطلاع عليها والاستفادة منها ، إلا إذا دوّنت في كتاب .

8- حق الابتكار حق معنوي مجرد أو هو حق مالي ؟

- في زمان الماضي كان الابتكار حقا ً معنويا ً مجردا ً يتمثل في نسبة الكتاب إلى مؤلفه ، وعدم جواز انتحاله ، ولم يكن للمؤلف الحق المالي ، وما ذهب إليه بعض العلماء المعاصرين من أنه كان للمبتكر في الزمان الماضي الحق المادي ، ويتجلى ذلك من خلال الأعطيات التي يكرم بها المؤلفون ، ومن خلال الرواتب المقررّة للمدرسين .
فهو محل نظر ، لأن الأعطيات من باب التبرعات لا معاوضة الحق ، و رواتب المدرسين لا صلة لها بالحق المادي للمبتكر ، لأن المؤلف لم يشرك المدرس الذي يتقاضى الأجر على تدريس كتابه ، وقد كان المدرس يتقاضى الأجر على عمله ، وهو التدريس ، والتدريس غير التأليف .
- أما في هذا الزمان فبرزت مسألة الحق المالي للوجود بعد انتشار الطابعات ، ولا نجد حكم هذه المسألة في كتب الفقهاء لأنه لم يجر ِ العرف ُ في زمانهم على مالية حق الابتكار ، وقد اختلف العلماء في هذا العصر في مالية الابتكار على قولين ، سأذكرهما مع الأدلة وبيان الراجح .
- فقلة من العلماء في هذا العصر ذهبت إلى أنّ المؤلف ليس له إلا الحق العلمي ، والشريعة لا تقرّ الحق المادي للمؤلف ، وذهب السواد الأعظم من العلماء في هذا العصر إلى ثبوت الحق المادي للمؤلف ، بالإضافة إلى ثبوت الحق العلمي له .
- وقبل بيان أدلّة العلماء ، أذكر مذاهب الفقهاء في معنى المال ، وكيف تصبح الأشياء مالا ً ليمكننا تخريج هذه المسألة على آراء الفقهاء .
- فالمال عند الحنفية :  اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي وأمكن إحرازه والتصرف فيه .
- أو هو : عين يجري فيه التنافس و الابتذال ، فيخرج ما ليس بمال كحبّة من نحو شعير وكفّ تراب وشربة ماء ، كما يخرج الميتة والدم .
- يتضح مما سبق أن المال عند الحنفية عين أو ما يمكن إحرازه ، وهذا القيد لإخراج المنافع كسكنى الدار ، فإنها لا تعدّ مالا ً بحدّ ذاتها ، لأن المنافع أعراض لا تبقى زمانين ، ولا يمكن إحرازها , إلا أنهم قالوا إن ّ المنافع تصير أموالا ً بورود العقد عليها .
- كما يتضح أن الأعيان تكون أموالا ً عند الحنفية ، إذا كان الناس يتمولونها ويبيح الشارع الانتفاع بها .
- فحبة الشعير لا تعد ّ مالا ً على الرغم من إمكان إحرازها لتفاهتها ، كما أن الميتة عين يمكن إحرازها  إلا أن الشارع حرّم الانتفاع بها فلا تكون مالا ً .
 - إذن بمقتضى مفهوم المال عند الحنفية فإن الابتكار لا يعدّ مالا ً بحدّ ذاته لأنه من المنافع ، و المنافع لا تعدّ أموالا ً بحد ّ ذاتها ، إلا أنه إذا ورد العقد على الابتكار فإنه يصبح مالا ً ، وليس هناك نص يمنع ورود العقد على الابتكار والله تعالى أعلم .
- والمال عند الجمهور : ما له قيمة يباع بها و هو أعيان أو منافع ، وبذلك يظهر أن الحنفية والجمهور متفقون على أن ّ العُرف هو الذي يضفي وصف المالية على الشيء ، فإذا تعارف الناس على مالية عين فإنها تكون ذات قيمة بشرط عدم وجود نص مانع .
- إلا أن الجمهور خالفوا الحنفية في اعتبار المنافع أموالا ً بحد ذاتها .
- فيتضح أن الابتكار يمكن أن يكون مالا ً عند الجمهور إذا جرى العُرف بماليته ، والله تعالى أعلم .
- آراء العلماء في مالية الابتكار وبيان أدلتهم ومناقشتها :
- القول الأول لقلة من العلماء : لا يعد ّ الابتكار مالا ً ولا يتضمن الحق المادي ، بل هو حق معنوي مجرد . وحجتهم :

1- قوله تعالى ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من كتم  علما ً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) .
وجه الاستدلال : إنّ حبس المؤلف كتابه عن الطبع والنشر إلا بمقابل عوض مادّي يؤدي إلى كتمان العلم ، فيناله الوعيد ، فيمنع من ذلك .
المناقشة : أ- إن تحريم كتمان العلم يحتمل الدلالة على عدة معان منها :
إظهار الزيف و إخفاء الحق يدل على ذلك سبب ورود الآية ، وهو ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال سأل معاذ بن جبل وخارجة بن زيد وسعد بن معاذ نفرا ً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه و أبوا أن يخبروهم ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية .
والآية خارجة عن محل النزاع ، لأن المؤلف لا يكتم العلم بل يطبع وينشر ومحلّ النزاع هل يعدّ حق الابتكار حقا ً ماديا ً أو لا يعد كذلك .
ب- إن القول بتحريم كتمان العلم لا يستلزم نفي وصف المالية عن الابتكار .
بيان ذلك أن ّ كتمان العلم كاحتكار المنافع و السلع حيث يخفيها أصحابها والناس في حاجة ماسة إليها ، ولم يقل أحد إن ّ حرمة الاحتكار تستلزم بذل السلع والمنافع مجانا ً ، بل الواجب بيعها على أساس القيمة أو ثمن المثل .

2- إن العلم عبادة ، فهو ليس صناعة ولا تجارة تدر المال ، ومن ثم فلا تجوز المعاوضة عليه .
المناقشة : أجاز جمهور الفقهاء الاستئجار على تعليم العلم الشرعي ، فلم لا يجوز على التأليف ؟! وهؤلاء الذين لم يجيزوا اعتبار حق التأليف حقا ً ماديا ً يقابل بمال يتقاضون الأموال على تدريس علوم الشريعة ، فكان بنبغي عليهم أن لا يتقاضوا المال على التدريس ! .
على أن متقدمي الحنفية وبعض المالكية والحنابلة في رواية منعوا الاستئجار على تعليم العلم الشرعي ، وسبب ذلك أن المعلمين كانوا يتقاضون المرتبات من بيت المال ، وبما أن الأعطيات من بيت المال قد انقطعت لذلك أفتى متأخرو الحنفية ، ومن معهم بجواز أخذ الأجر على تعليم العلم الشرعي ، إذ لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان .
على أنه قد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجرا ً كتاب الله ) فلئن جاز أخذ الأجر على قراءة القرآن فلئن يجوز في غيره من باب أولى .

3- إن بذل المصنَّف للنشر و الانتفاع و إباحة ذلك لكل من يريد طباعة الكتاب دون عوض يحقق مقصدا ً من مقاصد الشريعة بتحقيق مصلحة انتشار العلم  بين الناس .
المناقشة : إن دعوى بذل المصنف للنشر والطبع و إباحته لكل من يريد طباعته لا تحقق المصلحة المذكورة بانتشار العلم .
بيان ذلك أن دور النشر لا توزع الكتب مجانا ً ولا تتقاضى ثمن الحبر والورق فقط ، بل تزيد على ذلك مبلغا ً من المال ، وهذا هو الحق المادي في الابتكار ، والمؤلف أولى به من دار النشر .
على أن هذا الدليل يرد أيضا ً على تعليم العلم الشرعي ، ولا يقول هؤلاء بتدريس العلم مجانا ً

4- قياس حق الابتكار على حق الشفعة ، فلّما  لم يجز الفقهاء أخذ المال على التنازل عن حق الشفعة ، كذا لا يجوز أخذ الأجرة على الابتكار ، بجامع أن كلا ً منهما حق مجرد .
المناقشة : إن عدم جواز التنازل عن حق الشفعة مقابل مبلغ من المال ذكره الحنفية .
على أن القياس مع الفارق ، لأن حق الشفعة ثبت لدفع الضرر وليس كذلك حق الابتكار .

القول الثاني : وهو لأكثر أهل العلم في هذا العصر وعليه قرار مجمع الفقه الإسلامي :
يعد حق الابتكار حقا ً ماديا ً علاوة على الحق العلمي المعنوي .

أدلتهم : 1- العرف : فالشيء يصبح مالا ً إذا تعارف الناس على ماليته ولم يكن نصّ خاص يمنع من ماليته .
وقد تعارف الناس على مالية الابتكار فيصبح مالا ً .

2- المصلحة المرسلة : فليس هناك نص يمنع من القول باعتبار مالية الابتكار ، كما أنه ليس هناك نص يعتبر الابتكار مالا ً فتكون المسألة في المصالح المرسلة ، والمصلحة تقتضي اعتبار الابتكار مالا ً لأن هذا يحقق مصلحة المؤلف ومصلحة المجتمع ، أما المؤلف فإنه لا يستطيع أن يبدع و يبتكر غالبا ً إلا بعد تأمين احتياجاته المادية ، وحفظ هذا الحق حافز له على التأليف ، وأما المجتمع فالمصلحة تنعكس عليه بكثرة المبدعين ، والله تعالى أعلم .

9- توقيت الحق المالي في الابتكار :
اتـفقت قوانين العالم على أن الحق المالي في الابتكار مؤقت ، وأما الحق العلمي أو الأدبي فهو للمؤلف ويستمر بعد وفاته له .
وقد اختلفوا في مدة بقاء الحق المالي ، فأغلب القوانين ترى أنه يبقى للمؤلف مدة حياته ، ولورثته خمسين سنة من تاريخ وفاة المؤلف ، فإذا انقضت المدة يتحول الحق المالي إلى ملكية عامة ، فيمكن لأي شخص أن يطبع الكتاب ويستفيد ماديا ً منه .

- أما في الشريعة الإسلامية ، فقد اجتهد الدكتور فتحي الدريني ورأى أن الحق المالي في الابتكار مؤقت أيضا ً ، فيبقى للمؤلف مدة حياته ، ثم ينتقل إلى ورثة المؤلف بعد وفاته ، ويبقى لهم مدة ستين سنة فقط ، فإذا انقضت المدة أصبح المؤلَّف حقا ً مشتركا ً للأمة .
- ويمثل الأمة مؤسسة أو جهة خيرية تستغل الكتاب وتصرف الأرباح في وجوه البر العامة كطلب العلم ، وبناء المدارس و المشافي ، كما أنه يمكن لدار نشر أن تطبع الكتاب وتأخذ نسبة معقولة من الربح نظير الأتعاب .
- وحجة الدكتور الدريني : أ-  إن الابتكار نسبي لأنه يستند إلى تراث السلف وهو حق عام للأمة . ب-  قياس الابتكار على الأرض الموقوفة ، فيمكن أن تؤجر ستين سنة على ما ذكره الفقهاء ، فكذلك يبقى الحق المالي في الابتكار لورثة المؤلف ستين سنة من تاريخ وفاته .
مناقشته : ما ذهب إليه الدكتور الدريني محلّ نظر ، بيان ذلك :

أ- أما إن الابتكار نسبي فهذا هو الغالب فيه ، إلا أنه جهد المؤلف في جمع المعلومات المتفرقة ومناقشتها والإضافة عليها ، يقتضي نسبة المؤلف إليه ، وهذا ما لا خلاف فيه ، وأن النسبة لا تقبل التأقيت .
ثم إن العرف قضى بمالية الابتكار ، و إن كان كذلك فهو حق عيني وهو ما ذكره الدكتور الدريني ، فيكون من حقوق الملكية وحق الملكية ليس حقا ً مؤقتا ً.
ب- قياس الابتكار على الأرض الموقوفة قياس مع الفارق ، ذلك أن علّة ثبوت ملكية منفعة الأرض للمستأجر ثبوتها له بعقد الإجارة وعقد الإجارة في أصله مؤقت ولا يصح أن يكون مؤبدا ً ، وقد قيد الفقهاء أقصى مدة لإجارة أراضي الوقف بتلك المدة حتى لا يدعي المستأجر ملكية الموقوف .
أما علّة ثبوت ملكية حق الابتكار بالنسبة لورثة المؤلف فهي ماليته ، وبما أن المالية ثابتة في الابتكار للمؤلف ، فإن الورثة يرثون مال المؤلف فيرثون الحق المالي في الابتكار ، ولا مسوغ شرعا ًولا عقلاً بأن تستغل دور النشر الكتاب وتربح هي ويحجب ورثة المؤلف عن هذا الحق المالي دون مسوغ للحجب عن هذا الإرث .

10- معاوضة الحق المادي في الابتكار :

عرفنا أن العلماء اختلفوا في مالية الابتكار على قولين ، فقلة منهم لم يعتبروا الابتكار مالا ً ، ومن ثم فإنهم لا يجيزون معاوضته بمال ، فيرون أن المؤلف ليس له أن يتقاضى أي عوض مقابل إبداعاته العلمية و أما السواد الأعظم من العلماء فقد اعتبروا الابتكار مالا ً ، ومن ثم فإنهم أجازوا أخذ العوض في مقابلة الابتكار .
وسنبحث هنا عن الطريقة التي يمكن من خلالها أن يحصل المؤلف على المال والتكييف الفقهي لعلاقة صاحب الابتكار مع الناشر .
أ- فإن رفع المؤلف يده عن حقه المادي كليا ً ، فهذا بيع ، ويقع على النسخة الأصلية ، ومن ثم يخّول المشتري لهذا الحق بطبع ما شاء من النسخ ، وفي أي وقت شاء ، وتنقطع صلة المؤلف المادية بالمؤلـَّف مع ملاحظة أن المشتري إنما يشتري الحق المادي فقط ، أما الحق العلمي المعنوي المتمثل في نسبة الابتكار إلى صاحبه فلا يقع في العقد أصلا ً ولا يمكن التنازل عنه  .
ب- و إن رفع المؤلف يده  جزئيا ً إلى مدة محدودة عن حقه المادي ، فهذا إجارة ، فيستأجر الطابع أو الناشر نسخة المؤلف الأصلية لينسخ عنها ألف نسخة مثلا ً ، أو ينسخ عنها مدة عشر سنوات بأجر مقدر معلوم أو بنسبة مئوية كــ 10 % من ثمن النسخة وبعد انتهاء المدة يعود الحق المادي إلى المؤلف .

11- سرقة حق الابتكار :
 
قد يتعدى أحدهم على حق المؤلف في مؤلفه العلمي ، إمّـا بنسبة الكتاب إلى نفسه ، و إمّـا بطباعة الكتاب الذي يحظى بالحماية دون إذن ، وهذا اعتداء على الحق المالي للمؤلف ، ومن أجل بيان حكم هذه المسألة لا بد من عرض موجز لحد السرقة من أجل استنباط الحكم .
1- تعريف حد السرقة :
الحد لغة : الحاجز بين شيئين ، والمنع ، وسمي حد السرقة بذلك لأنه يمنع من معاودتها .
والحد اصطلاحا ً : عقوبة مـقـدّرة .
ويكون تقديرها بالكتاب والسنة ، ويعود تقدير العقوبة في التعزيز إلى القاضي .

- السرقة لغة : أخذ شيء خفية .
- وشرعا ً : أخذ المال خفية وظلما ً من حرز مثله بشروط

2- عقوبة السارق : عقوبة السارق قطع يده اليمنى ، لقوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) .
وتجب العقوبة لمن توافرت فيه شروط السرقة ، فإن تخلف شرط من الشروط ، فالواجب التعزيز .
3- شروط المسروق : للمسروق شروط متعددة إن توافرت طبقت عقوبة الحد ، و إن تخلّف واحد منها فلا قطع على السارق و إنما يعزّر ، وسأذكر الشروط بشكل موجز .
أ- أن يكون المسروق مالا ً : أي يتموله الناس ، ويعدّونه مالا ً ، فلا قطع بما ليس بمال من الأشياء التافهة ، ولا قطع بسرقة خمر وخنزير وميتة ودم ، لعدم المالية .
ب- أن يكون المسروق نصابا ً ، والنصاب هو الحدّ الأدنى من المقدار الذي يقطع به السارق ، فإن كان المال المسروق أقل من النصاب فلا قطع .        
 
ونصاب السرقة عند الحنفية دينار أو عشرة دراهم ، وعند الجمهور ربع دينار أو ثلاثة دراهم .

 و الدينار  =  4.25 غ من الذهب .
 و الدرهم =  2.975 غ من الفضة .

ج- أن يكون المسروق محرزا ً .
الحرز : هو المكان الذي يحفظ فيه المتاع عادة ، بحيث لا يستطيع الناس أخذ المال بسهولة ، بل لا بد من الأخذ خفية ، بحيث لا يعدّ المالك مفرطّا ً .
وينقسم الحرز إلى قسمين : حرز بنفسه وحرز بغيره .
فالحرز بنفسه : كلّ بقعة معدة للإحراز ممنوعة الدخول فيها إلا بإذن كالدور ، فيقطع السارق من هذا الحرز و إن لم يكن فيه أحد ، إذا تحققت بقية الشروط .
والحرز بغيره : كل ّ مكان غير معدّ للإحراز يدخل إليه بلا إذن ولا يمنع منه ، كالمساجد والطرق والمدارس ، فإن كان حافظ يحفظ المتاع فهو حرز ، وإلا فهو في حكم الصحراء .

4- هل تطبق عقوبة السرقة على سارق حق الابتكار ؟
عرفنا أن الابتكار يتضمن حقين ، الحق العلمي ، والحق المادي ، وسأبين حكم سرقة الحقين :

سرقة الحق العلمي :
تكمن سرقة الحق العلمي بانتحال أحدهم مؤلَّفا ً علميا ً ، فيأخذ المادة العلمية في الكتاب كما هي ، ويحذف اسم المؤلف ويضع اسمه مكانه .
وبما أن هذا الحق معنوي مجرد ، وهو ليس بمال ، فلا تطبق على السارق عقوبة السرقة بل يعزّر بما يراه القاضي مناسبا ً ، وتعاد نسبة الكتاب إلى المؤلف .
و إن تقدم بالكتاب لنبل درجة علمية ، فإن الشهادة التي منحت له تسحب منه .
ب- سرقة الحق المادي :
عرفنا عند ذكر مالية الابتكار أن العلماء اختلفوا في مالية الابتكار على قولين ، فقلة منهم ترى أن الابتكار لا يتضمن الحق المالي ، فهو حق معنوي مجرد ، أمّا السواد الأعظم من العلماء فالابتكار عندهم يتضمن الحق المادي .
وبناء على القول الأول ، فإنه لا مانع شرعا ً من طباعة الكتاب الذي يحظى بالحماية في عُرف الناس ، وما تكتبه دور النشر أن حقوق الطبع والنشر محفوظة ، فلا يعوّل عليه فـكل من أراد طبع الكتاب أو تصويره لا يمنع من ذلك ولا يعد آثما ً .
و أما على قول السواد الأعظم من العلماء الذين قالوا بمالية الابتكار فإن الحكم يتخرج وفقا ً لطبيعة الابتكار وشروط المسروق .
- وقد عرفنا أن الحق المادي في الابتكار هو من حقوق العباد ، وأن منفعة العلم تنعكس على ، المجتمع ، ففيه إذن حق الله تعالى ، ولذلك نفرق بين طباعة الكتابة وبين تصويره .

1- طباعة الكتاب : إذا كان الكتاب يحظى بالحماية ، حيث تكتب دار النشر أن حقوق الطبع محفوظة لها أو للمؤلف ، فليس لدار أخرى طباعة الكتاب ونشره ، فإن طبعت فالفعل محرم ، وهل تطبق عقوبة السرقة على الطابع ؟ .
للجواب عن ذلك نعرض الحق المادي في الابتكار على شروط المسروق ، وقد عرفنا أن شروط المسروق هي أن يكون مالا ً ، و أن يبلغ نصابا ً و أن يكون محرزا ً .
- أما الشرط الأول : فمتحقق لأن الحق المادي مال .
- أما الشرط الثاني : فيتحقق تبعا ً  لقيمة النسخة وعدد النسخ المطبوعة .
- وأما شرط الحرز فمتخلف ، لأن الحق المادي في الابتكار ليس بمحرز ، فقد عرفنا أن الحرز هو المكان الذي تحفظ فيه السلعة عادة فلاّ تكون السرقة إلا خفية ، ومع هتك الحرز .
- وبما أن الكتاب مطبوع ومعروض للبيع في دور النشر ، فإن أي شخص يمكنه شراء الكتاب وتملكه ، ثم طباعة آلاف النسخ عنه ، مع أننا نقول هو ملك النسخة المشتراة ، ولم يملك الحق المادي في الابتكار فإن الذي يظهر أن عقوبة السرقة لا تطبق لعدم تحقق معنى الحرز .
- إلا أن هذا لا يعفي إعفاء الطابع من العقوبة كليا ً ، فقد عرفنا أنه تخلف شرط من شروط السرقة فالواجب تطبيق عقوبة التعزير ، فيعزره الحاكم بما يراه مناسبا ً .
- بالإضافة إلى تضمينه قيمة الحق المادي في الابتكار ، وتعرف هذه القيمة من خلال عدد النسخ المطبوعة بعد إسقاط التكاليف التي بذلها الطابع .

2- تصوير الكتاب :
قد يصوّر أحدهم الكتاب الذي يحظى بالحماية كلّه ، أو قد يصوّر صفحات منه دون تصوير كامل الكتاب .
- أمّـا تصوير كامل الكتاب ، فالأصل فيه المنع ، لأن في هذا اعتداء على الحق المادي للمؤلف ، هذا إذا كان الكتاب متوافرا ً في الأسواق ، أمّا إذا كان الكتاب مفقودا ً واحتاج أحدهم إلى نسخة منه ، فالذي يبدو جواز ذلك لأن من حق العامة أن ينتفعوا بالعلوم النافعة .
- على أن ما يقوم به البعض من تصوير الكتاب الموجود في المكتبات بحجة أن ثمنه غال ، فغير جائز لأننا إن اعتمدنا مالية حق الابتكار ، فنقيس الحق على سائر الحقوق المالية ، فلو أن سلعة ارتفع سعرها واحتاج أحدهم إليها ، فهذا لا يسوغ له تملكها مجانا ً .
- وأما تصوير صفحات من الكتاب ، فالظاهر جوازه ، لجواز الاقتباس من الكتاب ، ولوجود حق الله في الابتكار ، والله تعالى أعلم .....

12- زكاة حق الابتكار :
عرفنا أن العلماء اختلفوا في مالية الابتكار على قولين ، فعلى القول بعدم مالية الابتكار فلا زكاة فيه ، وعلى القول بماليته فإن المسألة تحتاج إلى تحقيق ، بيان ذلك أنّ الله تعالى أوجب الزكاة في الأموال ، فقال ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) والابتكار مال .
إلا أن لوجوب الزكاة في الأموال شروط لا بد من تحققها ، ثم إن الأصناف التي تجب فيها الزكاة متعددة، ويبدو أن الابتكار يعدّ من عروض التجارة .
وتجب الزكاة في عروض التجارة عند عامة أهل العلم باستثناء الظاهرية لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( في الإبل صدقتها ، وفي البقر صدقتها ، وفي البزّ صدقته ) والبزّ هو القماش ، وتصبح الأموال عروض تجارة بتحقق أمرين اثنين .
1- الملكية الثابتة : واشترط الجمهور أن تملك مقابل عوض ، وزاد الإمام أحمد و أبو يوسف من الحنفية العروض المملوكة لقاء فعل كقبول الهدية واكتساب المباحات .
2- نيّة التجارة : ولا بد أن تكون النية مقترنة بالتملك ، وبعد هذا لا بدّ من توافر شرطين آخرين لوجوب الزكاة في عروض التجارة ، وهما بلوغ النصاب ، وحولان الحول .
والنصاب على أساس الذهب يساوي ما قيمته 85غ من الذهب .

ويعتبر الحول عند الحنفية : في بدايته ونهايته ،  فلو نقص في أثنائه فإنه لا ينقطع بخلاف ما لو انعدم .

وفرق المالكية بين التاجر المدير والمحتكر
: فالمدير: هو الذي يبيع ويشتري ولا ينتظر وقتا ً، فيجعل لنفسه شهرا ً يزكي فيه كل عام عند نهاية الحول ، والمحتكر : هو الذي يشتري السلع للتجارة وينتظر غلاءها ، فلا زكاة في عروضه حتى يبيعها ، فيزكيها لحول واحد ولو بقيت عنده أكثر من حول .
ويعتبر الشافعية :
آخر الحول فقط ، وأما الحنابلة فيعتبرونه من أوله إلى آخره ، فلو نقص في أثنائه انقطع الحول .

- بعد هذا العرض الموجز لزكاة عروض التجارة ، هل تنطبق زكاة عروض التجارة على حق الابتكار ؟ .

عرفنا أن عروض التجارة لا تجب فيها الزكاة إلا عندما تملك العروض بعوض عند الجمهور و زاد الحنابلة و أبو يوسف تملكها بفعل ، واتفقوا على اشتراط نية التجارة عند التملك .
ولا ينطبق الشرطان على حق الابتكار ، لأن ملكية حق الابتكار لم تكن بمعاوضة ، بل بالتأليف والإبداع ، فتخلّف هذا الشرط عند الجمهور ولأن المؤلّف لا توجد لديه نية المتاجرة التي تكون عند التاجر ، فالتاجر يشتري السلعة وينوي بيعها ، وشراء سلعة أخرى وهكذا .
إلا أن الزكاة تجب في النقود التي يتقاضاها المؤلف عند معاوضته الحق المادي في الابتكار ، فتجب زكاة النقود لا زكاة العروض ، والله تعالى أعلم .