مقالات


أدبنا الضاحك

بقلم:  الدكتور محمد محمد بدوي وهبة
 

الفكاهة فن وفلسفة .. فهي فن لا يجيده إلا القلائل من الناس ، وهي فلسفة لأنها يجب أن تكون تعبيرا ً عن موقف أو نظرة أو فكرة ، تتوسل إليها بلطف ودقة . باللمح دون الإطالة و بالتلميح دون التصريح ، و إذا خلت الفكاهة من هذه العناصر - وهي أحيانا ً قد تخلو - جاءت ناقصة باهتة اللون عاجزة عن الوصول إلى نفوس الناس وقلوبهم .
والفكاهة بهذا المعنى - أي بما توصف به شكلا ً ومضمونا ً - ليست مطلقة لجميع الناس يستطيعها أيُّ إنسان ، بل هي توشك أن تكون تخصصا ً في أفراد يبرزون في أدب الأمة ، وتتخذهم حكاياتها و أخبارها وسيلة من وسائلها في التعبير عن مواقفها المختلفة وعن الظروف التي تمرُّ بها الأمة .
والفكاهة في الأدب العربي تشمل على جميع هذه العناصر . ولعل أزهى فترة من فترات أدبها إنما هي فترة الأدب العباسي التي ازدهرت الحياة الأدبية فيها جميعا ً ، كتابة وتأليفا ً ، شعرا ً ونثرا ً ، كما حفلت الحياة فيها بشتى أنواع الصراعات المذهبية و العقلية ، فجاء أدب هذه الفترة ممثلا ً لتلك النشاطات بشتى اتجاهاتها وصورها .
إن المجتمع العباسي مجتمع بلغ مرحلة من التحضر و الاستقرار في المدن و اتخاذ أسباب الحياة المادية المدنية ، بحيث أصبحت البادية وما يتصل بها من سذاجة الحياة وبساطتها بعيدة تماما ً عن حياة أهل المدن .
وكان المجتمع العباسي مجتمعا ً إسلاميا ً منفتحا ً على شتى الثقافات و المفاهيم والآداب ، تصارعت فيه القيم وتعاونت كذلك على إنشاء فكر مستقل و أدب عربي ذي سمات واضحة .. و من أهم سماته هذا التنوع الرائع وهذه الألوان الشتى .
ويلاحظ أن هذا المجتمع كان حافلا ً بالنشاط الفكري دينا ً ودنيا ، ولم تقتصر المعارف على تلك العلوم النقلية و المعارف الموروثة بل كان من مفاخر هذا العصر ظهور العلوم العقلية واستقلال الفلسفة الإسلامية .. ولكل مظهر من مظاهر هذه النشاطات طبقته المتخصصة فيه المعنية بتتبع أصوله الموصولة بعالمه : فهناك طبقة المحدثين و الفقهاء و علماء الكلام ، وهناك المعلمون و المؤدبون و اللغوين ... الخ .
و إن لكل جانب من جوانب حياة هذا العصر ، ولكل طبقة من طبقاته ، مهما بلغت في علو درجاتها أو قدرها ، قسطا ً و موضعا ً في أدب الفكاهة الذي نتحدث عنه .
فلم تسلم جماعة أو فئة ، مهما كان شأنها في العمل الجاد ، من أن تكون هدفا ً لفكاهة أو حكاية طريفة أو نقد ساخر يتناول شخصياتها و يقدمها للناس في إطار مقبول وممتع .

هل تجوز الفكاهة شرعا ً ؟!

يناقش العلماء المسلمون جدوى الفكاهة انطلاقا ً من المقولة إلى أن الجدَّ الدائم قد يحمل العقل على الجمود والجفاف ، و أن الفكاهة - أو المزاح كما يسمونها - باب للعقل ينفذ منه نحو شيء من الحرية من أجل استعادة نشاطه على أن تكون المتعة مجدية ، و إلا تكون الحياة مزاحا ً أو تفكها ً فحسب .
فاجتماع الجدّ و الهزل أمر لازم لاستمرار نشاط الإنسان ، والمزاح عندهم لا بأس به ( ما لم يكن سفها ً ) ذلك أن الله تعالى وعد في اللمم بالتجاوز و العفو .. فقال : ( الذين يجتنبون الإثم و الفواحش إلا اللمم ) كما يفسره بعض المسلمين .
ويبدأ المسلمون في موضوع الفكاهة - كما في أي موضوع في المعارف الإسلامية التي جروا على بحثها و تتبعها - من حيث بدأت تلك المعارف في الإسلام : أي حياة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فيقولون : قال رسول الله صلى الله عليه لحنظلة : ساعة و ساعة .. أي أن يراوح الإنسان في ساعاته بين الجد والترويح عن النفس ، ذلك لأن النفس تمل من الدؤوب في الجد ، وترتاح إلى بعض المباح من اللهو .
ويقولون أيضا ً : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا ً ).
وسئل النخعي : ( هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحكون ؟ قال : نعم و الإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال :
( روحو  القلوب واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان )
وروي عن خالد بن صفوان الخطيب المعروف : (لا بأس بالمفاكهة تخرج الرجل من حال العبوس)
فكما أن في الفاكهة راحة للجسم فإن الفكاهة راحة للنفس ...
وهكذا يذهب المؤلفون المسلمون إلى أن الفكاهة تكاد تكون ضرورة نفسية وعقلية يميل الإنسان بطبعه إليها ، بحيث لا يحتمل الجد المتواصل ومن هنا ابتدأ الإخباريون بنقل الفكاهة و حكاياتها منذ الصدر الأول  في الإسلام متتبعين شخصياتها البارزة ، مختلقين الحكايات التي تنسب إلى مشاهير الفكهين فيقبل الناس عليها بنفوس متفتحة ، وتتناقلها الإخبار جيلا ً بعد جيل .
وكما لم يسلم القضاة و الفقهاء و المحدثون و أئمة المساجد و الوعاظ حيث كانوا هدفا ً للحكايات الفكهة الساخرة فإن نوادر كل فئة تبرز مواطن الضعف فيها والجوانب التي تستوجب النقد .
وليست هناك وسيلة أكبر جدوى و أعظم قدرة على الانتشار الواسع والسريع كقدرة النادرة أو الفكاهة .. فهي صحافة الناس اليومية آنذاك على أنها تتميز عن جميع وسائل الانتشار الأخرى بخفة وقعها في النفوس و قبول الناس لها .. وهي فوق ذلك مجهولة القائل لا يدعيها أحد ، ولذلك فهي أيضا ً أسلم عاقبة ، مع قدرة الناس على التغيير الحر الظريف .
إن أدب الفكاهة وسيلة جيدة لأي باحث لكي يتعرف على جهات كثيرة من حياة المجتمع العباسي ، تصورها وجهة نظر معاصرة لها .
فمن خلال النوادر التي تدور حول القضاة أو المحدثين - وهم أقرب الطبقات إلى الأصول و الشرعية - ندرك أن المجتمع العباسي كان يعاني من وجود قضاة أو فقهاء يجهلون الأصول الأساسية للإسلام ، بحيث لم يكن أحدهم يميز بين القرآن والشعر .
وهناك قضاة بأعينهم كانوا هدفا ً لحكايات خاصة بهم دون سواهم ، كما حدث مع القاضي يحيى بن أكثم ، وهو من قضاة الرشيد و المأمون .. ولقد كان من أكثر القضاة تعرضا ً للسخرية و الأقاويل ..
قيل : وليَّ يحيى بن أكثم قاضيا ً على أهل جبلة فبلغه أن الرشيد انحدر إلى البصرة .. فقال لأهل جبلة إذا اجتاز الرشيد فاذكروني عنده بخير .
فوعدوه بذلك .. فلما جاء الرشيد تقاعدوا عنه فسّرح القاضي لحيته و كبر عمته وخرج فرأى الرشيد في الحراقة ومعه أبو يوسف القاضي ، فقال : يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبلة عدل فينا وفعل كذا و كذا ...
وجعل يثني على نفسه فلما رأه أبو يوسف عرفه فضحك ، فقال له الرشيد : مم تضحك ؟ فقال يا أمير المؤمنين ، المثني على القاضي هو القاضي نفسه ..
فضحك الرشيد حتى فحص الأرض برجله . ثم أمر بعزله فعزل ...
وتمتاز بعض حكايات القضاة أو الفقهاء بروح من الفكاهة تصدر عن الشخصية نفسها ، حين تعرضها النادرة لموقف من المواقف الحرجة ..
قيل : جاء رجل إلى فقيه فقال : أفطرت يوما ً في رمضان ..
فقال : اقض يوما ً مكانه .
فقال : قضيت واتيت أهلي وقد عملوا مأمونية فسبقتني يدي إليها فأكلت منها  .
قال : اقض يوما ً آخر مكانه .
فقال : قضيت و أتيت أهلي وقد عملوا هريسة فسبقتني يدي إليها ..
فقال : أرى ألا تصوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك .
ومن أبرز الطبقات التي تعرضت للسخرية في الفكاهة هي طبقة المعلمين تلك التي حملت على عاتقها مسؤولية العلم وتأديته ، وقد تعرضت لشتى المفارقات والحكايات ، رغم أن المعلم هو عنوان العلم الذي يحمله على عاتقه ويؤديه رسالة في حياته ..
على ان عامة الذين قصدوا بهذه الصفة إنما هم من معلمي الصبيان والكتاتيب الذين زاد عددهم في هذا العصر باتساع الحركة التعليمية ، وبفتح الكتاتيب لكافة الطبقات يقبل عليها أولاد العامة  لتعلم قراءة القرآن والكتابة .. ورغم شيوع التعليم بين جميع طبقات الناس فقد بقيت مهمة التعليم مهمة فردية يقوم بها المعلمون بأنفسهم ، و أعني بذلك أن المعلم يتخذ العلم طريقا ً للكسب ويعتمد اعتمادا ً تاما ً على ما يقدمه الصبيان المتعلمون له من أجر ، وكثيرا ً ما يكون أجرا ً نوعيا ً ، أي من أصناف الطعام والمأكل .. وصار المثل يضرب بخبز المعلم وكسبه الذي يقوم عليه قوته اليومي وهو ما يمده به عادة تلاميذه ، فصار الناس يتفكهون بهذا الجانب من شخصيته .. هذا إلى جانب عناصر أخرى في شخصية المعلم تتصل بعلمه وعقله .. فقد شاع بين الرواة و الأدباء ضرب المثل بعقلية المعلم التي تمليها عليه طبيعة الطبقة التي يتصل بها و يجالسها .. وهم عادة من الصبيان ، وهكذا صار لا يوثق بعقل معلم الصبيان لأنه يقضي يومه لا يكاد يجالس غير الصبيان الصغار ، و مجالستهم تقضي على قدراته العقلية النامية .
ولقد استدرك الجاحظ بأن المعلمين لم يكونوا جميعا ً بهذا الوصف ، وذلك بعد أن قال ( وقد سمعنا قول بعضهم : الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين ) .
و أوشك الجاحظ أن يتخصص بحكايات المعلمين حيث كان على صلة مباشرة مع هذه الطبقة وهو يتمتع بقسط عظيم من حب الفكاهة والتندر .
ومن أشهر الحكايات التي يرويها الجاحظ من مروياته التي خبرها بنفسه .. الحكاية التالية :
( عن الجاحظ أنه قال : ألفت كتابا ً في نوادر المعلمين وما هم عليه من التغفل ثم رجعت عن ذلك ، وعزمت على تقطيع ذلك الكتاب ، فدخلت يوما ً مدينة فوجدت فيها معلما ً ذو هيئة حسنة فسلمت عليه فرّد على أحسن رد ، ورحب بي .
فجلست عنده وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر فيه .. ثم فاتحته في الفقه والنحو و علم العقول و أشعار العرب فإذا هو كامل الآداب . فقلت : هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب . فقال : فكنت أختلف إليه و أزوره ، فجئت يوما ً لزيارته فإذا الكتاب مغلق ، ولم أجده ، فسألت عنه فقيل : مات له ميت فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء . فذهبت إلى بيته وطرقت الباب فخرجت إليَّ جارية وقالت : ما تريد ؟
قلت : سيدك .. فدخلت وخرجت وقالت : باسم الله .
فدخلت إليه وإذا به جالس.. فقلت : عظم الله أجرك ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، كل نفس ذائقة الموت . فعليك بالصبر .. ثم قلت له :
هذا الذي توفي ولدك ؟ قال : لا .. قلت : فوالدك ؟ قال : لا .. فقلت فأخوك ؟ قال : لا .. فقلت : فزوجك ؟ قال : لا .. فقلت : وما هو منك ؟ قال : حبيبتي ..
فقلت في نفسي : ( هذه أول المناحس ) فقلت سبحان الله ، النساء كثير وستجد غيرها .. فقال : أتظن أني رأيتها ؟
قلت : (وهذه منحسة أخرى ) ثم قلت : وكيف عشقت ولم تر ؟
فقال : اعلم أني كنت جالسا ً في هذا المكان و أنا أنظر من الطاق ، و إذ رأيت رجلا ً عليه برد وهو يقول :

يا أم عمرو جزاك الله مكرمـة                ردي عـلي فـؤادي أينمـا كانــــا
لا تأخذين فؤادي تلعبين به                   فكيف يلعب بالإنسان إنسانا

فقلت في نفسي : لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر ، فعشقها .
فلما كان منذ يومين ، مرَّ ذلك الرجل بعينه وهو يقول :

لقد ذهب الحمار بأم عمرو                فلا رجعت و لا رجع الحمار

فعلمت أنها ماتت ، فحزنت عليها و أغلقت المكتب وجلست في الدار .
فقلت : يا هذا ، إني كنت قد ألفت كتابا ً في نوادركم معشر المعلمين ، و كنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه ، و الأن قد قويت عزمي على إبقائه . و أول ما أبدأ بك إن شاء الله تعالى .
و تتقصد النوادر أن تظهر صورة ساخرة للمعلم وهو يتتبع هذا التلميذ الداهية ..
تقول إحدى هذه النوادر - منقولة عن الجاحظ أيضا ً -  يقول :
( مررت على خربة فإذا بها معلم ، وهو ينبح نبح الكلاب فوقفت أنظر إليه ، و إذا بصبي قد خرج من دار فقبض عليه المعلم وجعل يلطمه ويسبه . فقلت : عرّفني خبره.. فقال : هذا الصبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار و لا يخرج ، وله كلب يلعب به ، فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج فأمسكه ) .
وتدور أحاديث أخرى حول طبقة ثانية هي طبقة النحويين وعلماء اللغة خاصة وتتناول هذه الأحاديث والنوادر جانبا ً آخر من شخصيتهم يتصل بصورة خاصة بعلمهم في اللغة و النحو وحرصهم على التعامل بالفصحى مع جميع طبقات الناس ، بغض النظر عمن يتعاملون معه ، مما يثير سخرية العامة و تندرهم بالنحوي الذي لا يعرف أين يضع علمه باللغة فلا يفرق بين متخصص بهذا العلم  وجل من سائر الناس ..
من ذلك الحكايات الطريفة التالية :
قيل ( إن بعض فقراء وقف على باب نحوي فقرعه ، فقال النحوي : من بالباب ؟ فقال : سائل .. فقال : ينصرف .. فقال : اسمي أحمد .. فقال النحوي لغلامه : أعط سيبويه كسرة ..)
فالسائل يظهر هنا و كأنه بارع متخصص في باب ما ينصرف و ما لا ينصرف في علم النحو ، هذا فضلا ً عن حضور بديهته وبراعته في الجواب .
و مما يحكى أيضا ً في سخرية العامة من النحوي :
قيل ( وقال نحوي لصاحب بطيخ : بكم تانك البطيختان اللتان بجنبهما السفرجلتان ودونهما الرمانتان ؟ فقال : بضربتان وصفعتان ولكمتان ، فبأي آلاء ربكما تكذبان ..)
على أن موقف بعض الحكايات من النحوي المتكلف ربما كان شديدا ً ، بسبب تقعر النحوي نفسه و تكلفه الفصحى تكلفا ً يستدعي من السامع أن يجيبه بما يتناسب مع تكلفه .
من ذلك الحكاية التالية :
( عاد بعضهم نحويا ً فقال : ما الذي تشكوه ؟
قال : همز جاسية ، نارها حامية ، منها الأعضاء واهية ، و العظام بالية .
فقال له : لا شفاك الله بعافية ، يا ليتها كانت القاضية ...)فكأن العامة تنتقم لنفسها في حكايات كهذه .
وينسحب هذا الأمر على بعض المتشيخين و الشعراء و المحدثين و الأعراب وغيرهم حيث أن النادرة لا تفوت أية ظاهرة من ظواهر الحياة في المجتمع العباسي دون أن تتناولها بالتعريض ..
ولعل أهم ما يمتاز به أدب الفكاهة في عالم الشعر هو الصورة التي يقدم فيها شخصية الشاعر الفكه بتقديم الشاعر في ضمن طبقة الشعراء العامة ، بل تضيف إلى ذلك أسماء محدودة
لشعراء بأعينهم ، أصبحت شخصياتهم أشبه بشخصية ( مهرج البلاط ) الذي يمتاز بالقدرة على الإضحاك قبل كل شيء وفي هذه الحالة إضحاك الخليفة خاصة وحاشيته .. و أهم ما تمتاز به شخصية ( الشاعر المهرج ) - فضلا ً عن القدرة على الفكاهة - أنه حاضر البديهة قادر على الخروج من المأزق بضحكة أو بنادرة و مهما كانت قوة هذه النادرة شديدة فهي مقبولة ، إذ تصدر عنه و يقبل الخليفة منه مالا يقبله من سواه .
ولقد كان الشاعر يتكسب بشعره كما يتكسب الناس بأية حرفة ، وصار بذلك هدفا ً للمتندرين و المتفكهين حتى اقترن لقب ( شاعر ) بلقب ( طفيلي ) و راحت الحكايات تعرض بمنزلته و تجعله مع الطفيلي في مقام واحد وتسخر منهما في فرضهما نفسيهما من أجل الارتزاق والكسب .
و الحكايات كثيرة عن هذا الوجه من وجوه الشعر العباسي ، ومن هذه الحكايات المحتلة لهذا الجانب الحكاية التالية التي تجمع بين الشعراء و المتطفلين :
قيل : ( نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك أنهم ذاهبون إلى وليمة ، فقام و تبعهم فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدائح لهم . فلما أنشد كل واحد شعره و أخذ جائزته لم يبق إلا الطفيلي و هو جالس ساكت ..
فقال له : أنشد شعرك ..
فقال : لست بشاعر .. قيل : فمن أنت ؟! قال : من الغاوين الذين قال الله تعالى في حقهم
 ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) فضحك السلطان و أمر له بجائزة الشعراء .
و الحكايات في جانب الشعراء كثيرة في هذا الباب .. ومثلها في باب النثر ، فللفكاهة موضع مهم في كتابات الكثيرين و منهم الجاحظ ، الذي ظهر ولعه الشديد بتلك الفكاهات التي تدور حول الطبقات التي خالطها بصورة خاصة .. و كتابه البخلاء مليء بالمفارقات و الفكاهات الباسمة رغم أنه لم يكن يتتبع أخبار البخلاء وحدهم أو الحديث عن بخلهم خاصة .
و لا يمكن أن ننسى بديع الزمان الهمذاني ، صاحب أشهر و أول مقامات في الأدب العربي ، فلقد استطاع أن يجمع في مقاماته بين فنون الأدب المختلفة ، و أن يقدمها بلسان هذه الشخصية الفاذة - بطل مقاماته أبي الفتح الاسكندري - و لبديع الزمان قابلية فنية عجيبة على الجمع المتناسب بين أساليب الأدب المتفننة و صور المجتمع الواقعية في عصره .. كل ذلك في إطار من الفكاهة و النقد الساخر الذي يصيب هدفه إصابة مباشرة .
و الخلاصة أن أدبنا العربي امتلأ بالفكاهة و التندر ، و روائع الكلام الباسم و المواقف الطريفة ..
و من شاء الاطلاع على شيء من هذا فليقرأ الكتب التي اهتمت بهذا الجانب ومنها :
الابشيهي ( شهاب الدين أحمد ) وكتابه المستطرف من كل فن مستظرف وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وشرح مقامات بديع الزمان و كتاب خاص الخاص للثعالبي أبي المنصور و البخلاء للجاحظ أبي عثمان و غيرها الكثير .