Untitled Document
  • chef cook slide show
  • chef cook slide show
  • chef cook slide show
  • chef cook slide show
  • لَحْظةُ الحقيقةِ أم لَحْظة الفضيحة ؟

  • الأستاذ بشار بكور






الحمد لله , والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله , وعلى آله وصحبه ومن والاه .
وبعد : التصوّف الحقّ هو التحقق بمقام الإحسان الوارد في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب , شديد سواد الشعر , لا يُرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد , حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه , ووضع كفيه على فخذية , وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " قال : صدقت . قال : فعجبنا له يسأله ويصدقّه . قال : فأخبرني عن الإيمان ، فقال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه " قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان ، فقال : " أن تعبد الله كأنك تراه , فإن لم تكن تراه فإنه يراك ... " الحديث .

مفهوم مقام الإحسان :
إن الناظر بعين التدقيق والتحقيق إلى أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل ـ عليه السلام ـ يخرج بنتيجة واضحة ، هي : أن التمام والكمال إنما يحصل بوجود أركان الإسلام والإيمان مع التحقق بمقام الإحسان الذي هو مجاهدة النفس التي وعد الله من تحقق بها الهداية والتأييد بقوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } .
تلك المجاهدة التي من مفاتيحها مراقبة الله جلّ جلاله ، وحضورُ القلب معه سبحانه ، مع يقين أنه لا يخفى عليه شيء ، وأنه يعلم السر وأخفى ، وأنه القاهر فوق عباده ، متحققاً بقوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } .
ولما كان العلم بالشيء الاعتقاد الجازم به المطابق للواقع , ومعرفة الشيء على ماهو به ، ووصول النفس إلى معناه الحقيقي ، كان معنى قوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } أنه يجب على العبد أن يعرف ربه ، وأن يعلم أنه الفرد الصمد ، إذ معرفة الله توجب الحياء والتعظيم ، كما أن التوحيد يوجب الرضا والتسليم، وأن يدرك أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في المساء ، ومن هنا أمر الله ـ جل جلاله ـ أن نعلم أنه لا إله إلا هو ، وأن لا يكتفي من أراد التوحيد الخالص بالنطق بالشهادة بل يُطلب منه العلم الجازم واليقين الذي لا يخالطه أدنى ريب .
ويوضح الإمام النووي في شرح الحديث المذكور آنفا ذلك بقوله : ( هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم ، لأنا لو قدّرنا أن أحدنا قام في عبادة ، وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى ، لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع , وحسن السَمت , واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به . ( فكأن رسول الله صلى الله عليه وسم قال ) : اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العِيان ، فإن التتميم في حال العيان إنما كان لعلم العبد باطِّلاع الله سبحانه وتعالى عليه ، فلا يقْدم العبد على تقصير في هذا الحال ، للاطلاع عليه ، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد ، فينبغي أن يعمل بمقتضاه. فمقصود الكلام الحثُّ على الإخلاص في العبادة ، ومراقبة العبد ربه ـ تبارك وتعالى ـ في إتمام الخشوع والخضوع ، وغير ذلك . وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ، ليكون ذلك مانعا من تلبُّسه بشيء من القائص احتراما لهم , واستحياء منهم , فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعاً عليه في سرَه وعلانيته ؟ قال القاضي عياض رحمه الله : وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ، وأعمال الجوارح ، وإخلاص السرائر ، والتحّفظ من آفات الأعمال ’ حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبّة منه ) .
نعم إن مقام الإحسان يجمع بين العبادات الظاهرة والباطنة ، وأعمال الجوارح ، وإخلاص السرائر ، يوقظ في العبد مسؤوليته بين يدي ربه ، قال سبحانه : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
فقد جعل الله الفؤاد مسؤولا كالسمع والبصر في محيطها . فعلى من أراد أن يتحقق في مقام القلب ، ليكون فعلا متحققا بمقام الإحسان الذي أطلق عليه فيما بعد منهج التصوف ، ومن هنا كان المنهج الصوفي منهجا إسلاميا سليما صحيحا لا غبار عليه ، منهجا قلبيا روحيا يعتمد على صفت سريرة صاحبها ، ولا يُكتسب ذلك بالقراءة والمعرفة فقط , بل بتزكية النفس وتأديبها مع الذوق السليم والحال القويم .
يقول الإمام الغزالي معبّراً عن الرأي الصحيح المبني على التجربة نفسها : ( ابتدأت بتحصيل علمهم عن مطالعة كتبهم مثل : القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله ، وكتب الحارق المحاسبي ، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي ـ قدّس الله أرواحهم ـ وغير ذلك من كلام مشايخهم ، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلية ، وحصّلت ما يمكن أن يحصّل من طريقهم بالتعلم والسماع , فظهر لي أن أخصّ خواصّهم ما لايمكن الوصول إليه بالتعلّم , بل بالذوق والحال وتبدل الصفات ... )
 
...............

من مقدمة شرح الشرنوبي على الحكم العطائية
بقلم : الدكتور الشيخ عبد الفتاح البزم

All right reserved by ALFATIH 2014